الأربعاء، 23 ديسمبر 2015

راسبوتين قديس و شيطان



لا يمكن لقارئ سيرة الراهب الروسي غريغوري راسبوتين إلا أن يتعجب من ما تضمه حياة هذا الرجل من غرائب و متناقضات بما فيها ملابسات حادثة اغتياله الغريبة و التي ما تزال مثار تكهنات عديدة حتى يومنا هذا ، فكيف استطاع هذا الراهب أن يجمع بين مظاهر القداسة و الورع و حياة الفسق و الفجور ، و كيف استطاع و هو الراهب المغمور القادم من سهول سيبيريا أن يصل إلى قمة هرم السلطة في سان بطرسبورغ و يصبح الآمر الناهي على القيصر و أسرته و المتحكم بمصائر الملايين من رعايا الامبراطورية الروسية المقدسة .

ولد راسبوتين لمزارع فقير في إحدى قرى سيبيريا عام 1869 و أطلق عليه أهله اسم غريغوري تيمناً بالقديس غريغوريوس الذي تصادف عيده مع تاريخ ميلاد الطفل ، لم يتلق راسبوتين أي تعليم و بقي أمياً كمعظم أبناء قريته ، و في عام 1887 تزوج من فتاة قروية أنجبت له ثلاثة أطفال ، في عام 1892 و بعد وفاة أحد أطفاله غادر راسبوتين القرية و قطن في أحد الأديرة لعدة أشهر و هناك تعرف إلى ناسك يدعى الأخ مكاري و قد تأثر راسبوتين به كثيراً و قرر بفضله أن يصبح متديناً .

في عام 1893 ادعى راسبوتين بأن السيدة العذراء قد ظهرت له ، ثم راح يتنقل متنسكاً بين عدة مناطق كما ادعى بأنه حج مشياً على الأقدام إلى جبل أثوس الذي يعرف بالجبل المقدس في شمال اليونان .

في عام 1905 وصل راسبوتين إلى سان بطرسبورغ في وقت كان فيه السحر و التنجيم و الاهتمام بالروحانيات و القوى الخارقة موضة العصر بين أبناء الطبقة الراقية ، و سرعان ما ذاع صيت راسبوتين بين طبقة النبلاء و بخاصة النساء منهم ، و في نوفمبر 1905 تولت ميلكا أميرة مونتنيغرو تقديم راسبوتين إلى القيصر نيكولا و زوجته ألكسندرا .

نقطة التحول في حياة راسبوتين جاءت في شهر آذار - مارس 1907 حين طلبت زوجة القيصر من راسبوتين الصلاة لشفاء ولي العهد الطفل ألكسي ابن الثلاثة أعوام و الذي كان يعاني من مرض الناعور ، و رغم أن الأطباء كانوا قد أخبروا القيصر و زوجته أن أيام طفلهما باتت معدودة إلا أن الطفل أبدى تحسناً ملحوظاً بعد صلاة راسبوتين ، و هكذا آمنت ألكسندرا و زوجها بأن معجزة إلهية قد وقعت و بأن راسبوتين بلا شك قديس ، يعتقد عدد من الباحثين و المؤرخين بأن واقعة الشفاء هذه قد يكون خلفها مؤامرة متقنة حاكها راسبوتين مع بعض الخدم في القصر و تضمنت دس مواد كيمائية معينة للطفل حتى تظهر عليه آثار المرض ثم وقف تلك الجرعات بالتزامن مع صلاة راسبوتين له .

بعد واقعة شفاء ألكسي بات نفوذ راسبوتين على الأسرة المالكة مطلقاً و أصبح يتدخل في كل شاردة و واردة من شؤون الدولة بما في ذلك تعيين الوزراء و المدراء و حتى رؤساء الحكومات و كبار موظفي الدولة ، كما انتشرت شائعات و روايات كثيرة حول علاقات راسبوتين النسائية الكثيرة و شغفه بالجنس و الخمر و الطعام ، كما اتهم راسبوتين بالانتماء لجماعة دينية سرية تدعى خاليستي كانت تمارس طقوساً غريبة تجمع بين التأمل و الصلاة و الممارسات الجنسية الفاضحة كطقوس الجنس الجماعي ، لكن راسبوتين بقي بالنسبة للقيصر و زوجته فوق مستوى الشبهات .

مع اندلاع الحرب العالمية الأولى واصل راسبوتين تدخله في شؤون الدولة و قد وصل به الأمر حد التدخل في شؤون الجيش فكان القيصر يعزل و يعين القادة العسكريين بناء على توصيات من راسبوتين ، و مع توالي الهزائم العسكرية راح أبناء الأسرة المالكة يخشون على مستقبل عائلتهم و مستقبل روسيا ، خاصة أن إشاعات عديدة انتشرت كانت تتهم راسبوتين بالعمالة لصالح الألمان ، و لذلك قرر أمير من آل رومانوف أن يخلص القيصر و روسيا من راسبوتين ، فدبر اغتياله ليلة السادس عشر من كانون الأول - ديسمبر 1916 حيث دس له السم في الطعام والشراب خلال وليمة عشاء أعدها له في منزله ، و حين لم ينفع السم قام بإطلاق النار عليه ، لكن راسبوتين عاد و انتفض على قاتليه بينما كانوا يقومون بحمل جثته و فر منهم راكضاً فأطلقوا الرصاص عليه ثانية في باحة القصر ، ثم رموا جثته في نهر نيفا ، و حين عثرت الشرطة على جثة راسبوتين تبين أنه مات غرقاً أي أنه كان ما يزال على قيد الحياة حين ألقي به في النهر .

الفصل الأخير من قصة راسبوتين لم ينته بمماته ، فقد قيل بأنه ترك رسالة للقيصر قبل وفاته يتنبأ فيها بأنه سوف يموت مقتولاً ، و قد قال في الرسالة أنه في حال كان قاتلوه من آل رومانوف فإن هذا يعني بأن القيصر و أسرته سوف يموتون مقتولين أيضاً بعد فترة قصيرة من الوقت ، و هذا ما وقع فعلاً حيث قتل القيصر و أسرته على يد الثوارة البلاشفة يوم 17 يوليو - تموز 1918 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق